
كيف يؤثر زمن التنقل على نمط حياتك الشّخصيّة والمهنيّة؟
- يستيقظ أحمد يوميًا عند السّاعة 5:30 صباحًا، يستعد على عجل، وينطلق إلى عمله بحلول الساعة 6:15، ورغم استيقاظه المبكر؛ يقضي الساعة التالية عالقًا في زحام طرقات الرياض المكتظة، حتى يصل إلى مكتبه.
- قبل أن يباشر أولى مهامه، يكون استنفد قدرًا من طاقته، مع أن يومه الفعلي تقريبًا لم يبدأ بعد.
- مع نهاية ساعات العمل، يواجه المعاناة ذاتها مجددًا، ليعود إلى منزله بعدما استُنزفت بقية طاقته، فلا يجد ما يكفيه منها لقضاء بعض الوقت مع عائلته أو ممارسة اهتماماته.
قصة أحمد ليست مجرّد حالة استثنائية.
في الرياض، يبلغ متوسط زمن التنقّل خلال أوقات الذروة 53 دقيقة في كل اتجاه، أي أن هناك ما يقارب ساعتين يوميًا تُهدر في الطريق؛ بينما كان الأولى أن تُستثمر في تطوير المسارات المهنية، أو الاهتمام بالصّحة والرفاهيّة، أو تعزيز العلاقات الاجتماعية.
ومع أن التنقّل بات جزءًا روتينيًا من يوم العمل، إلا أن قلّة فقط تدرك أثره التراكمي على النمو المهني والشخصي، وجودة الحياة بشكل عام.
التكاليف الخفيّة للتنقّل الطويل
الوقت هو الأثر الواضح لما يخسره الموظف يوميًا بسبب التنقّل، لكن الأثر الحقيقي يتجاوز ذلك بكثير.
بالنسبة للموظّف السعودي العادي، فإن متوسط التنقّل يبلغ 53 دقيقة في كل اتجاه، أي: 1.75 ساعة يوميًا، و8.75 ساعات أسبوعيًا، و35 ساعة شهريًا، وتصل إلى 420 ساعة في السنة – ما يعادل أكثر من 17 يومًا كاملًا يقضيها كل عام عالقًا في الزحام.
وعلى امتداد مسيرة مهنية تستمر 30 عامًا، يقضي الفرد ما يزيد عن 12,600 ساعة في التنقّل، أي ما يقارب عامًا ونصف من عمره خلف عجلة القيادة.
ولا يقف الأثر عند الزمن؛ فالعبء المالي لا يقل وطأة.
مريم، التي تسلك يوميًا طريقًا طويلًا من شمال الرياض إلى مقر عملها وسط المدينة، تنفق نحو 500 ريال شهريًا على الوقود وحده، ومع احتساب تكاليف الصيانة التي تتزايد نتيجة التوقف المتكرر وحركة المرور البطيئة، تستحوذ نفقات التنقّل على نحو %10 من دخلها الشهري.
أما من يعتمدون على خدمات النقل التشاركي، فتقدّر تكلفة التنقل لديهم ما بين 800 إلى 1000 ريال شهريًا، وهو ما يؤدي فعليًا إلى خفض الدخل الصافي بنسبة تصل إلى %15.
ثم تأتي التكلفة الصحية، وهي أكثر خفاءً وتهديدًا.
تؤكد الدكتورة فاطمة الحربي، أخصائية أمراض القلب في مدينة الملك فهد الطبية: "نلاحظ ارتفاعًا واضحًا في معدلات ضغط الدم والمشكلات القلبية المرتبطة بإجهاد التنقّل اليومي، حيث إن قلة الحركة، وارتفاع هرمونات التوتر، والتعرّض المزمن للتلوّث؛ كلها عوامل تتداخل لتُفاقم خطر الإصابة بأمراض مزمنة".
ولا ينفصل الضغط البدني عن العبء النفسي.
خالد، اختصاصي تقنية معلومات، خفّف مؤخرًا من زمن تنقّله بعد انتقاله إلى وظيفة أقرب، يصف تجربته السابقة بقوله: "كنت أبدأ يومي بتوتر لا يفارقني، حيث يسلبني الزحام شعور السيطرة، ويُبقيني في قلق دائم من التأخير.. ومع نهاية كل يوم، أعود منهكًا تمامًا؛ لا طاقة لدي لعائلتي، ولا حتى لنفسي.. أصبح نومي مضطربًا، ومزاجي يميل إلى الانطفاء بلا سبب واضح، وبدأ أدائي في العمل يتراجع بصورة لم أعد قادرًا على تجاهلها".
كيف يؤخّر الطريق الطويل مسيرتك المهنية؟
لا يستهلك التنقل الطويل وقت الموظف وجهده فحسب، بل يشكّل عائقًا خفيًا يتسلل ببطء إلى مسار التطور المهني، من خلال تقليص القدرة الفعلية على الاستثمار في الذات والتطوير المستمر؛ فبعد قضاء ما يقارب الساعتين يوميًا في الزحام، يفقد الكثيرون طاقتهم الذهنية ودوافعهم لمتابعة دورات تدريبية إضافية، أو الالتحاق ببرامج تعليمية، أو حتى حضور فعاليات مهنية تعزز فرصهم في التقدّم الوظيفي.
تلاحظ ليلى، مديرة الموارد البشرية في إحدى كبرى الشركات السعودية، هذه الظاهرة عن قرب، حيث تقول: "رغم أننا نقدم ورش عمل مهنية مسائية، إلا أن الموظفين الذين يواجهون تنقلات طويلة نادرًا ما يتمكنون من حضورها؛ فالوقت الإضافي خارج المنزل يصبح عبئًا يفوق قدرتهم على التحمل.. ومع مرور السنوات، نرى فرقًا واضحًا في معدلات الترقية بين من يسكنون قرب مقر العمل، ومن يقطعون مسافات طويلة يوميًا".
ولا يتوقف التأثير عند حدود التطوير الشخصي؛ بل يمتد إلى الأداء الوظيفي اليومي نفسه! فبحسب دراسة صادرة عن صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف)، فإن الموظفين الذين لا تتجاوز مدة تنقلهم 20 دقيقة كانوا أكثر احتمالًا بنسبة %23 للحصول على تقييمات أداء إيجابية، مقارنةً بمن تتجاوز مدة تنقلهم 45 دقيقة.
ويُعزى ذلك إلى عدّة عوامل، منها: الاستنزاف الذهني قبل بدء الدوام، وارتفاع الإجازات المرضية المرتبطة بالتوتر والإجهاد، وتراجع القدرة على التفكير الاستراتيجي والإبداعي؛ وهي عناصر أساسية للتقدّم الوظيفي.
وفي هذا السّياق، يؤكد عمر، مدير متجر تجزئة في جدة، هذه الملاحظة من واقع تجربته اليومية: "يمكنني تمييز من يعانون من رحلات طويلة بمجرد مراقبة أدائهم صباحًا، حيث يصلون منهكين، ويحتاجون وقتًا أطول للدخول في أجواء العمل، ونادرًا ما يبادرون لتحمّل مسؤوليات إضافية تُبرز إمكاناتهم القيادية".
ولا تنتهي آثار التنقل الطويل هنا.. إذ تضيّق المسافة خيارات الموظف المهنية نفسها، حين يصبح مضطرًا لاستبعاد عدد من الفرص الواعدة بسبب موقعها الجغرافي؛ فيخسر فرصًا محورية تتناسب مع مهاراته وطموحاته، فقط لأن الطريق إليها كان أطول مما ينبغي.
كيف تعيق المسافة توازن حياتك؟
لا يبدو أثر التنقل الطويل واضحًا في بدايته؛ لكنه مع الوقت، يسرق خلسة ذلك الخط الرفيع الذي يفصل بين توازن العمل والحياة، فتتسلّل الساعات الضائعة ببطء إلى تفاصيل اليوم، حتى تصبح استعادة التوازن أشبه بمحاولة الإمساك بالضوء، وللأسف، أول من يتلقى هذا العبء -غالبًا- هم من نحبهم. — نور، أم لثلاثة أطفال وتعمل في قطاع الضيافة، تصف واقعها بمرارة: "أغادر المنزل قبل أن تفتح أعينهم، وأعود لأجدهم وقد غلبهم النعاس.. ما بين زحام الطرقات تفوتني ضحكات أطفالي، وحكاياتهم العابرة، ومساعدتي لهم في تفاصيل يومهم.. فأعود يوميًا وأنا مثقلة بشعوري بالذنب…".
هذه الضغوطات لا تمر بلا أثر؛ حيث أظهرت دراسة لجامعة الملك سعود أن التنقل الطويل كان عاملًا مساهمًا في %27 من النزاعات الأسرية في المملكة. فكل ساعة تضيع بعيدًا عن العائلة، يتراكم أثرها على المدى الطويل، فتُضعف الروابط التي لا تُعوّض بسهولة.
ولا تتوقف الخسارة عند حدود الأسرة؛ بل تمتد إلى شبكة العلاقات الاجتماعية والفرص الشخصية، حيث إن ساعات الطريق الطويلة تعني تراجع التواصل مع المجتمع، وإضعاف الصداقات، وإهمال الهوايات، والانقطاع عن الأنشطة الدينية والتطوعية التي تجدّد طاقة الإنسان وتعزّز جودة حياته. — عبدالله، الذي انتقل مؤخرًا ليقترب من مقر عمله، يستعيد تفاصيل هذه المفارقة بقوله: "لم أدرك حجم ما كنت أخسره إلا بعد أن تغيرت حياتي.. اليوم، بمسافة لا تتجاوز 15 دقيقة إلى العمل، وجدت وقتًا للانضمام إلى فريق كرة قدم، واستعدت صداقات كانت على وشك الذبول، وعُدت للمشاركة في نشاطات المسجد.. الحياة تبدو أوضح، وأغنى، وأكثر اتزانًا مما كنت أتصور".
تحدّيات محلّية وحلول عمليّة
يحمل مشهد التنقّل في المملكة طابعًا خاصًا، تفرضه ظروف البنية التحتية والنسيج الاجتماعي والثقافي معًا؛ فمحدودية وسائل النقل العام في كثير من المناطق تجعل الاعتماد على المركبات الخاصة أو خدمات النقل التشاركي واقعًا لا بديل عنه بالنسبة لمعظم العاملين، كما أن تزامن ساعات العمل بين مختلف القطاعات يخلق ذروات مرورية خانقة، فيما تضيف حرارة الصيف المرتفعة عبئًا جسديًا حتى على التنقّلات القصيرة.
لكن هذا المشهد لا يبقى على حاله، حيث تقود استثمارات "رؤية 2030" في البنية التحتية تحولًا نوعيًا في واقع التنقل الحضري، من خلال تقديم حلول عمليّة تستهدف تقليص أوقات التنقل، مثل مشروع مترو الرياض، وتوسّع شبكات الحافلات في المدن الكبرى، وإنشاء طرق بديلة تخفّف الازدحام؛ ممّا يسهم في تحسين جودة الحياة لملايين العاملين.
ومن الجدير بالذكر أن هذا التحوّل في مشهد البنية التحتية يتقاطع مع تغييرات أوسع تمسّ طبيعة العمل نفسه؛ فمع ظهور مراكز أعمال جديدة خارج النطاقات التجارية التقليدية، وازدهار المجمعات الخدمية داخل الأحياء، تتغير خريطة التنقّل اليومية تدريجيًا.
ولا تنفصل هذه التحولات عن العوامل الثقافية والاجتماعية التي تواصل تشكيل خيارات الأفراد؛ فالالتزامات العائلية، ومواقيت الصلاة، وتنامي مشاركة المرأة في سوق العمل؛ جميعها تفرض حضورها في متى وكيف وأين يتنقل العاملون، لتبقى معادلة الوصول إلى فرص العمل مرتبطة، في جوهرها، بقدرة الفرد على موازنة حياته المهنية والشخصية.
كيف تخفّف عبء التنقّل؟
لا يُقاس أثر التنقّل فقط بالمسافة أو الزمن، بل بما يقتطعه من تفاصيل يومية كان يمكن أن تُعاش بشكل أعمق، لذلك تبدأ رحلة استعادة وقتك من الخطوة الأبسط: أن تعمل في مقر بالقرب من منزلك. — سعد، مشرف مبيعات تجزئة، يصف أثر هذا التغيير على حياته: "حين وجدت وظيفة في مركز تجاري لا يبعد عن منزلي أكثر من عشر دقائق، تغيّر كل شيء! اكتسبت ساعتين إضافيتين في يومي، وخفّضت مصاريف النقل بما يقارب 700 ريال شهريًا، واستعدت حضوري الكامل في عملي وبيتي.. وللمرة الأولى منذ سنوات، استطعت أن ألتحق بدورة مسائية دون أن أشعر أنني أضغط على طاقتي".
اليوم، مع توسّع منصات التوظيف المعتمدة على الموقع الجغرافي، مثل "أوبس"، أصبحت هذه الخيارات أقرب مما نظن؛ حيث لم يعد البحث عن فرصة قريبة ترفًا، بل استثمارًا ذكيًا في جودة حياتنا ومساراتنا المهنية. ولكن، ماذا لو لم يكن العمل بالقرب من السكن حلًا ممكنًا؟
هنا تظهر أهمية التفاوض على ترتيبات عمل مرنة، كإعادة جدولة ساعات العمل لتفادي أوقات الذروة، أو اعتماد أنماط عمل أكثر تكيّفًا. — أمل، أخصائية خدمة عملاء، خاضت هذه التجربة عندما طلبت تعديل وقت حضورها ليبدأ عند السابعة صباحًا بدلًا من التوقيت التقليدي، حيث تقول: "وفّرت ما يقارب عشرين دقيقة في كل اتجاه، لكن الأثر الحقيقي كان في هدوئي الذهني، وفي إحساسي بأن وقتي أصبح ملكي من جديد".
ومع ذلك، تظل هناك طرق أخرى لمن لا يزال الطريق الطويل واقعًا لا مفر منه في يومه. — محمد، محاسب يتنقّل قرابة 45 دقيقة يوميًا، قرر أن يُعيد تشكيل علاقته بالطريق، حيث يقول: "حوّلت رحلة الذهاب إلى جلسة تعلّم صامتة، أستمع خلالها إلى برامج تثري معرفتي، وخصّصت طريق العودة للمكالمات العائلية.. ربما لم تتغير المسافة التي أقطعها؛ لكنها لم تعد تستنزفني كالسابق".
مستقبل التنقل في المملكة
يشهد مشهد التنقّل في المملكة تحوّلًا تدريجيًا يَعِد بتخفيف أعبائه عن العاملين، لا سيما مع تسارع تنفيذ مشاريع البنية التحتية التي تستهدفها "رؤية 2030"، التي تسعى إلى توسيع خيارات النقل العام، والتوجّه لأنماط التوظيف اللامركزي، ممّا يجعل الوصول إلى الوظيفة أقرب -حرفيًا ومعنويًا- من ذي قبل، وذلك بجانب ازدياد الإقبال على العمل عن بُعد بوصفه خيارًا قابلًا للتطبيق في قطاعات متعددة، ممّا يمنح الأفراد مرونة أعلى في تصميم نمطهم المهني بما يتلاءم مع أسلوب حياتهم.
وأمام هذا المشهد المتغير، لم يعد تقييم الفرص الوظيفية مبنيًا على "الراتب" وحده؛ بل بات يشمل أبعادًا أكثر عمقًا، مثل زمن التنقّل، وتكلفته، وأثره المتراكم على الصحة النفسية والاجتماعية وجودة الحياة على المدى الطويل، لأن أفضلية الفرصة لا تُقاس بمستوى المنصب أو حجم الراتب وحدهما، بل بما تتيحه من توازن بين طموحك وجودة حياتك.
اختصر وقت تنقّلك وحقّق توازنك
العلاقة بين التنقّل اليومي والاستقرار المهني والشخصي أعمق بكثير مما تبدو عليه في ظاهرها؛ فعندما تختار العمل في مقر قريب من منزلك، أنت لا تختصر المسافة فحسب، بل تعيد توجيه طاقتك إلى ما يستحق: إلى نموّك، وصحتك، وعلاقاتك، وجودة حياتك.
أحمد، الذي تعرفنا على قصته في بداية هذا الدليل، لمس هذا التحوّل بوضوح حين انتقل إلى وظيفة جديدة في مركز تجاري ضمن نطاق سكنه، وعلى الرغم من أن الراتب كان أقل مما يتقاضاه سابقًا، إلا أن المعادلة لم تحتج إلى كثير من التردد؛ الزمن المستعاد، وتكاليف النقل التي انخفضت، والنمط الحياتي الأكثر هدوءًا، جميعها عناصر رجّحت كفة الخيار الأقرب، مع العلم أنه بعد ستة أشهر فقط، حصل على ترقية، واستعاد حضوره الحقيقي مع أسرته، وأصبح يعيش بإجهاد أقل وتركيز أعلى.
واليوم، مع توسّع المشاريع الحضرية في المملكة، تتزايد فرص تحقيق هذا التوازن، حيث تتيح منصات التوظيف المعتمدة على الموقع الجغرافي -مثل "أوبس"- للباحثين عن عمل الوصول إلى فرص قريبة من مساكنهم، مما يعزز قدرتهم على بناء مسيرة مهنية أكثر استدامة واتساقًا مع نمط حياتهم.
تصفّح opus.sa واكتشف الوظائف الأقرب إليك الآن!
لأن الطريق الأقصر، ليس مجرد اختصار… بل خطوة نحو نمط حياة لا يُهدر وقتها بالوصول إلى العمل؛ بل في المضيّ قُدمًا فيه.
هل تبحث عن مزيد من الحلول والنصائح المهنية؟ تابع مدونة "أوبس" واستعد للانطلاق نحو طموحاتك وجودة حياتك!