
حين تتحوّل السياحة إلى محرّك رئيسي للفرص المهنية
المملكة اليوم لا تُروّج للسياحة فحسب؛ بل تعيد تعريفها من جذورها.
لم تعد تُعرف السعودية بكونها مهدًا للشعائر الدّينيّة ووجهة للحج والعمرة فقط، بل باتت تطرح نفسها كوجهة شاملة تنفتح على الثقافة، والترفيه، والطبيعة، والتّجارب الممتعة والمُثرية بمختلف أنواعها.
هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة لرؤية بعيدة المدى تستثمر في بناء منظومة ضيافة متكاملة، تُعيد تشكيل خارطة سوق العمل، وتفتح آفاقًا مهنية جديدة أمام الكفاءات الوطنية والدّولية، وذلك في إطار مستهدفات رؤية المملكة 2030.
تحوُّل المشهد السياحي في المملكة
يشهد قطاع السياحة في المملكة تحولًا جذريًا يعيد تعريف وجهتها على خارطة السفر العالمية؛ فالمواقع التاريخية التي ظلّت لسنوات محصورة في السياحة المحلية، تُعرض اليوم كُكنوز ثقافيّة فريدة أمام الزّوار القادمين من مختلف البلدان، وسواحل البحر الأحمر البكر تتحول إلى وجهات فاخرة تحتضن نخبة منتجعات العالم، فيما تُعاد صياغة الصحاري الواسعة كمحطات رئيسية للمغامرات البريّة السّياحيّة، أما المدن الكبرى، فتحوّلت إلى مراكز نابضة بالحياة الثقافيّة والترفيهيّة، حيث تستضيف فعاليات عالمية تمتد من سباقات الفورمولا إلى المهرجانات الموسيقية الدولية، وغيرها من الأحداث البارزة.
ويعلّق طارق المحمود، مستشار الضيافة بخبرة تمتد لأكثر من 15 عامًا في الشرق الأوسط، قائلًا: "نشهد اليوم نقلة نوعية لقطاع السياحة السعودي، فبعدما كان مشهد السّياحة حصرًا على رجال الأعمال والحجّاج، أصبح يمتد إلى قطاعات متوازية تشمل السياحة الترفيهية، والثقافية، والمغامرات البريّة، إلى جانب قطاع المؤتمرات والمعارض (MICE)".
هذا التنوّع لم يأتِ بمعزل عن دعم استثماري غير مسبوق؛ حيث خصّص صندوق التنمية السياحية السعودي أكثر من 150 مليار ريال (ما يعادل 40 مليار دولار) لتطوير البنية التحتية والمواقع الجاذبة في مختلف أنحاء المملكة، كما تقود مشاريع عملاقة مثل نيوم، والبحر الأحمر، والقدية، والعُلا موجة التغيير هذه، بإعادة رسم الخريطة السياحية، وخلق طلب متسارع على الكفاءات في قطاع الضيافة والخدمة.
وتؤكد الأرقام هذا الزخم؛ حيث استقبلت المملكة أكثر من 16.5 مليون زائر دولي في عام 2022، مع توقّعات ببلوغ 30 مليون زائر بحلول 2030، ولتلبية هذا الإقبال، تخطّط السعودية لرفع الطاقة الاستيعابية الفندقية من نحو 650 ألف غرفة حاليًا إلى أكثر من مليون غرفة خلال السنوات السبع المقبلة، في حركة تتطلّب تطوير مئات الفنادق والمنتجعات الجديدة على امتداد المملكة.
الأبعاد المهنيّة لازدهار قطاع الضيافة
لم تقتصر الثورة السياحية في السعودية على تطوير الوجهات والمرافق فحسب، بل أحدثت تحوّلًا نوعيًا في البنية المهنية للقطاع ذاته؛ حيث أعادت الضيافة تعريف أدوارها ومساراتها، متجاوزة النمط التقليدي للعمل الفندقي؛ لتصبح بيئة أكثر تنوعًا واتساعًا، تحتضن مختلف الخلفيات والمهارات، وتُوسّع مفهوم الضيافة كمسار مهني قابل للنمو، يقدّر التخصص، ويمنح العاملين فيه فرصًا حقيقية للتطوّر الوظيفي.
إدارة الفنادق والمنتجعات
تتّضح ملامح نمو قطاع الضيافة في المملكة بشكل لافت في مجال الفنادق والمنتجعات، حيث يشهد القطاع تنوّعًا متسارعًا مع دخول سلاسل عالمية تؤسس فروعًا رئيسية في المملكة، إلى جانب فنادق بوتيكية تُعيد إحياء المباني التاريخية بطابع عصري؛ وما بين رفاهية العلامات الفندقية الكبرى وأصالة التجارب المحلية، تتشكّل خارطة إقامة جديدة تُلبّي احتياجات الزوّار وتفتح أبوابًا واسعة للفرص المهنية.
ويأتي هذا التحوّل جليًا في تجارب العاملين أنفسهم، كما يرويه فهد، مدير المكتب الأمامي في أحد فنادق الرياض المصنّفة "خمس نجوم": "بدأت رحلتي في القطاع قبل 6 سنوات كموظف استقبال، ولم أتخيّل آنذاك أن الأمر سيتحوّل إلى مسار طويل المدى، حيث كنت أراه عملًا مؤقتًا لا أكثر.. لكن مع مرور الوقت وتراكم التجارب، اكتشفت أن المجال أعمق مما توقعت.. واليوم، أنا في منصب إداري، والطريق أمامي مفتوح نحو أدوار تنفيذية".
أبرز مسارات العمل داخل الفنادق:
• المكتب الأمامي وخدمات الضيوف
البوابة الأولى لتجربة الزائر، وهي أدوار تتطلب مهارات تواصل عالية، ومرونة في التعامل مع مختلف الثقافات، وقدرة على حل التحديات بشكل فوري. تبدأ الرواتب من 5,000 إلى 7,000 ريال، مع فرص للترقي إلى مناصب إدارية برواتب تصل إلى 15,000–25,000 ريال.
• الإشراف الداخلي وإدارة المرافق
رغم بعدها عن الواجهة، إلا أنها ركيزة أساسية في كفاءة تشغيل المنشآت، وتزداد أهميتها مع دخول الأنظمة الذكية لإدارة الصيانة وتتبع الاستهلاك، حيث تبدأ رواتبها من 4,000 ريال، وتصل إلى 18,000 ريال للمناصب التنفيذية.
• تشغيل خدمات الطعام والشراب
يمثّل هذا المجال ركيزة أساسية في تجربة الضيافة الفاخرة، ويشمل مطاعم الفنادق، المناسبات، وخدمة الغرف. أما فيما يخص الرواتب، فهي تتراوح ما بين 4,500 إلى 6,000 ريال، وتصل إلى 30,000 ريال في المناصب القيادية، خاصة لمن يديرون أكثر من مرفق داخل المنشأة.
الفرص المهنية بقطاع المطاعم
ينمو قطاع المطاعم في المملكة كمساحة غنية بالحركة والتجريب، تقودها مفاهيم متجددة وأذواق أكثر تنوّعًا؛ حيث أسهمت التسهيلات التنظيمية وتنامي الاهتمام بتجربة الطعام كأحد عناصر الجذب السياحي، في تسريع نمو المطاعم المستقلة وظهور فرص واسعة للعمل والتطوّر المهني. يشمل هذا التنوع مجموعة من المفاهيم والمطابخ، بدءًا من المأكولات السعودية التقليدية، مرورًا بالمطاعم المتخصصة، وصولًا إلى التجارب العالمية الراقية.
وفي قلب هذا المشهد المتسارع، تبرز تجارب الطهاة والعاملين كمرآة حقيقية لتحوّلات القطاع، كما تروي نادية، الطاهية المساعدة في أحد المطاعم السعودية المعاصرة بجدة: "قبل 5 سنوات، كانت الخيارات متشابهة ومحدودة جدًا، لكن الآن تُفتتح مطاعم جديدة كل أسبوع، ولكلّ منها فكرته وهويّته.. الناس صاروا يقدّرون نكهاتنا المحلية، لكنهم يتطلعون في الوقت نفسه إلى التغيير، ممّا جعل الطاهي الذي يجيد المزج بين الأصالة والتجديد… هو من يلفت الانتباه فعلًا".
وتبدأ رواتب القطاع في المسارات الفنية من 5,000 إلى 8,000 ريال للطهاة المنفّذين، وتتقدّم إلى أدوار إشرافية في منصب مساعد الطاهي، براتب يصل إلى 15,000 ريال؛ أما الطاهي التنفيذي، فيصل راتبه إلى 35,000 ريال أو أكثر في بعض المطاعم الراقية، وغالبًا ما تُمنح الفرص الأبرز لمن يمتلكون مهارات فنية عالية، إلى جانب قدرتهم على مراعاة الفروقات الثقافية في تقديم الأطباق وتجربة الضيافة.
ومن الجانب الإداري، تبرز إدارة المطاعم كأحد الأعمدة الرئيسة في استدامة النجاح؛ حيث تشمل المهام: الإشراف العام، وتنسيق العمليات، وضبط جودة الخدمة، ومتابعة الأداء المالي، وتتراوح رواتب المديرين العامين عادةً بين 15,000 و25,000 ريال، بحسب حجم المطعم وطبيعة عملياته وتعقيدها.
إدارة الفعاليات والمؤتمرات والمعارض (MICE)
مع تحوّل المملكة إلى وجهة إقليمية وعالمية لاستضافة الفعاليات، تزايد الطلب على المحترفين المتخصصين في إدارة وتنظيم المؤتمرات والمعارض والمناسبات الكبرى؛ حيث تحتضن المملكة اليوم أنماطًا متعددة من الأنشطة الدولية، مثل المنتديات الاقتصادية والبطولات الرياضية، إلى جانب المهرجانات الثقافية والعروض الترفيهية، وجميعها تتطلّب تخطيطًا محكمًا وتنفيذًا احترافيًا بمعايير عالمية.
وفي هذا السياق، ذكرت ليلى (مديرة فعاليات أشرفت مؤخرًا على مؤتمر دولي في الرياض): "القطاع لا ينمو فقط في عدد الفعاليات، بل في تصاعد مستوى الاحترافية المطلوبة؛ فتصميم تجربة الزائر اليوم أصبح يتطلب خيالًا، وتنسيق أماكن الإقامة صار عملًا إبداعيًا بحد ذاته.. لذلك ترتفع المعايير بسرعة ملحوظة، و يكمن التحدّي في مواكبتها باستمرار".
ويشمل العمل في إدارة الفعاليات مجموعة متنوّعة من التخصصات، منها: منسقي اللوجستيات الذين تتراوح رواتبهم بين 7,000 و10,000 ريال شهريًا، والمديرين الإبداعيين الذين يتقاضون ما بين 15,000 و30,000 ريال لقاء ابتكار المفاهيم والتوجّهات الإبداعية، والعمل على تجسيدها بشكل واضح في تجربة الحضور؛ ممّا يجعل تقدير القطاع ينصبّ على المحترفين الذين يجمعون بين الكفاءة التقنية، والرؤية الإبداعية، والانتباه العميق للتفاص
تطوّر التجارب السياحية
مع تطوّر العروض السياحية الترفيهية في المملكة، تشكّل أمامنا مسار مهني جديد يتمحور حول تصميم تجارب الزوّار وإدارتها، ويشمل ذلك الجولات التراثية المصحوبة بالسرد الثقافي، ورحلات المغامرات الصحراوية، وغيرها من الأنشطة الغنية بالهوية المحلية.
يعلّق عبدالله، الذي انتقل من تدريس التاريخ إلى العمل كأخصائي سياحة ثقافية في العلا: "نحرص على تقديم تجارب حقيقية تعبّر عنّا وتستوفي -في الوقت نفسه- معايير السياحة العالمية؛ فالمسافر اليوم لا يأتي من أجل المكان فقط، بل يبحث عمّا يربطه به".
يتطلّب هذا المجال مزيجًا من الإلمام بالثقافة والتاريخ، ومهارات الضيافة المتقدّمة، والقدرة على التواصل بلغات مختلفة؛ وتتراوح رواتب مطوّري التجارب بين 8,000 و15,000 ريال شهريًا، بينما تصل رواتب مديري عمليات الجولات إلى 20,000 ريال تبعًا لنطاق العمل وتعقيده.
رقمنة قطاع الضيافة
أسهم التحوّل الرقمي لقطاع الضيافة في استحداث مسارات وظيفية جديدة بالكامل، تُوجّه تركيزها نحو تطوير تجربة النزيل الرقمية، وتحليل البيانات، وتطبيق الحلول الذكية في بيئة التشغيل الفندقي.
وتنعكس هذه التحوّلات في اعتماد أنظمة الدخول عبر الهواتف المحمولة، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين مستوى الخدمة، إلى جانب مجموعة من الحلول التي جعلت التقنية جزءًا لا يتجزّأ من أسلوب تقديم الضيافة وإدارتها.
وتشمل هذه المسارات الوظيفية أدوارًا مثل: أخصائي إدارة الإيرادات، برواتب تتراوح بين 10,000 و18,000 ريال شهريًا، ومنسّق التسويق الرقمي، برواتب تتراوح بين (8,000 إلى 15,000 ريال)، إلى جانب مدير أنظمة الضيافة الذي يتقاضى ما بين (12,000 - 22,000 ريال)؛ وهي وظائف تربط بين الكفاءة التقنية وفهم العمليات التشغيلية في بيئة الضيافة، وتناسب بشكل خاص المرشحين الذين يجمعون بين المهارات التقنية وفهم أساسيات تجربة النزيل.
لتوسّع الجغرافي للفرص الوظيفية
في مراحل سابقة، ارتبطت فرص العمل في قطاع الضيافة بمناطق محددة مثل مكة والمدينة، ولكن النقلة التي نعيشها اليوم؛ أتاحت توزيعًا جغرافيًا أشمل، تبرز فيه وجهات جديدة، وتتنوع فيه الفرص بحسب طبيعة كل منطقة ونمط التجربة التي تقدّمها.
فعلى امتداد سواحل البحر الأحمر، تُقام مشاريع كبرى مثل "البحر الأحمر" و"أمالا" في مواقع بقيت لسنوات خارج المشهد السياحي المعتاد؛ لتنشأ فيها وجهات فاخرة بهوية جديدة، تتأهّل لتكون محطات عالمية تستقطب الزوّار من مختلف أنحاء العالم، وتستوعب آلاف الكفاءات في مختلف المجالات.
وفي العلا، تمضي أعمال التطوير في اتجاه يجمع بين صون الهوية التاريخية وفتح المجال لتجربة سياحية منظّمة، ممّا يهيّئ فرصًا وظيفية ترتكز على المعرفة الثقافية بقدر ما تتطلب كفاءة في تقديم الضيافة.
أما المدن الكبرى كالرياض وجدة والدمام، فتشهد توسعًا لا يتركّز فقط في مراكزها الحضرية، بل يمتد إلى الضواحي والمجتمعات السكنية الجديدة، وذلك استجابة للطلب المتزايد على الإقامة، والمطاعم، وتجارب الترفيه المرتبطة بالسفر سواء كان بغرض العمل أو الاستجمام.
وفي مشاريع ترفيهية ضخمة مثل "القدية"، تتكامل عناصر متعددة، مثل السكن والطعام والعروض والتجارب؛ لتكوّن بيئة ضيافة متكاملة، تتطلّب طواقم مرنة ومتمكّنة قادرة على التنقّل بين المهام والتجارب المختلفة.
هذا الاتّساع في خارطة القطاع لم يغيّر فقط طبيعة الفرص، بل حتى مواقعها؛ حيث أصبح بإمكان كثير من العاملين اقتناص فرص قريبة من محل إقامتهم، ممّا يعزز التوازن بين الحياة العملية والشخصية في قطاعٍ عُرف بتحدياته الزمنية، ويُعد اليوم عنصرًا محوريًا في جذب الكفاءات واستبقائها.